لم يكن الحديث عن التكوين المهني في موريتانيا وليد الساعة، بل هو ملف قديم ظلّ يتأرجح بين الخطابات الرسمية والورشات المؤقتة دون أن يتحول إلى سياسة تنموية واقعية قادرة على امتصاص جيوش العاطلين الذين تتزايد أعدادهم عامًا بعد عام.
فكلما تفاقمت البطالة، عاد الحديث عن "أهمية التكوين المهني" و"ضرورة ربطه بسوق العمل"، لكن الحقيقة التي يحاول البعض تجاهلها هي أن الاهتمام المتجدد بهذا القطاع ليس ترفًا تربويًا ولا خيارًا إصلاحيًا نابعًا من قناعة فكرية، بل هو في جوهره استجابة اضطرارية لواقع اقتصادي مأزوم، أصبح يفرض على الدولة البحث عن حلول عملية بدل الوعود المؤجلة.
لقد أنتجت العقود الماضية نظامًا تعليميًا نظريًا منفصلًا عن حاجات الواقع. فبينما تخرّج الجامعات آلاف الطلبة بشهادات جميلة المظهر، يظلّ السوق في حاجة ماسة إلى أيدٍ ماهرة ومهارات تقنية قادرة على الإنتاج والإبداع.
هكذا وُلدت فجوة خطيرة بين التعليم والعمل، فجوة خلقت بطالة مُقَنَّعة، وأفرزت جيلاً واسعًا من الشباب العاطلين الذين يتنقلون بين الأمل والإحباط.
إن التكوين المهني اليوم لم يعد مجرد خيار من بين خيارات التعليم، بل هو الطريق الواقعي نحو بناء اقتصاد منتج يضع العمل محل الكلام، والممارسة محل التنظير.
غير أن هذا الطريق لا يزال محفوفًا بالعقبات البنيوية:
- برامج تكوين لا تواكب حاجات السوق المتغيرة.
- مؤسسات تدريب تفتقر للمعدات الحديثة والمدربين المؤهلين.
- غياب التنسيق الحقيقي بين الدولة والقطاع الخاص.
لكن التحدي الأكبر ليس في ضعف البنية أو نقص التجهيزات، بل في العقليات التي لا تزال تنظر إلى التكوين المهني نظرة دونية.
ففي ثقافتنا التعليمية، ما زال كثيرون يرون أن "المسار المهني" هو مأوى الفاشلين دراسيًا، لا طريق الكفاءات والإبداع.
وهذه النظرة تحتاج إلى ثورة فكرية حقيقية تعيد الاعتبار لقيمة العمل اليدوي والتقني، وتُحوِّل "المِهنة" إلى عنوان فخر لا وصمة عجز.
إن تغيير العقليات هو الخطوة الأولى قبل إصلاح المناهج والمراكز.
فلا جدوى من تحديث التجهيزات إذا ظلّت النظرة المجتمعية تحطّ من شأن المكوَّنين، ولا نفع من إقامة معاهد جديدة إذا ظلّ الخريج يواجه الحاجز النفسي والاجتماعي ذاته.
إن كشف المستور في ملف التكوين المهني يقتضي أن نقولها بوضوح:
لن تُحل أزمة البطالة ما دامت السياسات تُبنى على الخطابات لا على الدراسات، ومادامت الشراكة مع القطاع الخاص شكلية أكثر منها استراتيجية.
التكوين المهني يمكن أن يكون طوق نجاة حقيقيًا، لكنه ما زال اليوم قاربًا مثقوبًا يحتاج إلى ترميم عاجل؛ ترميم في البنية، وفي الرؤية، وقبل ذلك في العقلية الوطنية تجاه العمل والإنتاج.
فبقدر ما نُغيّر نظرتنا إلى المِهنة، نكون قد وضعنا أول لبنة في بناء اقتصاد وطني يعتز بالعمل لا بالشهادة، وبالكفاءة لا بالمظاهر.
بقلم: محمد عبد الرحمن الشيخ الداه