تعيش موريتانيا أزمة صامتة لكنها مدمرة، تتجلى في نزيف العقول وهجرة الكفاءات، حيث يجد أصحاب الخبرات أنفسهم بين خيارين: البحث عن فرصة عمل خارج الوطن أو الاستسلام لفكرة الهجرة بعدما سُدَّت الأبواب في وجوههم. إنها معضلة حقيقية تفرغ البلاد من طاقاتها وتتركها نهبًا للعشوائية وسوء الإدارة، والسؤال الذي يفرض نفسه: من المسؤول عن هذه الكارثة؟ ومتى ستنتبه الدولة إلى خطورة الوضع؟
لا يمكن الحديث عن هذه الأزمة دون الإشارة إلى البيئة الطاردة التي يعيشها الكادر البشري في موريتانيا، حيث يغادر أصحاب الكفاءات القطاع الخاص بسبب الفوضى وغياب القوانين وانعدام الاحترام للحقوق المهنية، ليجدوا أمامهم قطاعًا عامًا مغلقًا بفعل القوانين الصماء والشروط المجحفة والعراقيل السياسية التي تجعل من التعيين امتيازًا للمقربين بدل أن يكون استحقاقًا للكفاءات. في الوقت الذي تعاني فيه الدولة من أزمة إحالة الموظفين إلى التقاعد، وتوسع الأنشطة الاقتصادية، وزيادة عدد السكان، تظل سياسة الاكتتاب عاجزة عن استيعاب هذه العقول، ليبقى الوطن الخاسر الأكبر في هذه المعادلة المختلة.
إن هجرة الكفاءات ليست مجرد ظاهرة طبيعية، بل نتيجة مباشرة لسياسات عمومية فاشلة لم تستوعب بعد أهمية العنصر البشري في بناء الدولة. كيف يمكن المطالبة بالتنمية في ظل نزيف العقول؟ وكيف نتحدث عن تحديث الإدارة وإصلاح المؤسسات بينما يتم إقصاء أصحاب الكفاءة وتجاهل خبراتهم؟ لا يمكن بناء دولة حديثة دون إعطاء الأولوية للكفاءة والاستحقاق، بعيدًا عن المحاصصة السياسية والولاءات الضيقة.
إن التغافل عن هذه الكارثة هو تواطؤ غير معلن ضد مستقبل البلد، واستمرار نزيف العقول يعني مزيدًا من التخلف، ضعف المؤسسات، وغياب الرؤية التنموية. المطلوب اليوم هو قرارات حاسمة وجريئة تعيد الاعتبار للكفاءات الوطنية من خلال تعيين التكنوقراط، ووضع حد نهائي للسياسات التي تجعل من التوظيف امتيازًا سياسيًا بدل أن يكون استحقاقًا للكفاءات الحقيقية. لا يمكن أن تستمر الدولة في سد أبوابها أمام خبرات القطاع الخاص، وهي في أمسّ الحاجة إليها لمواكبة التحديات التنموية المتزايدة.
موريتانيا تحتاج اليوم إلى إرادة سياسية حقيقية تدرك أن الاستثمار في العقول هو الاستثمار الأهم، وأن بناء الدولة لا يكون إلا بسواعد أبنائها المخلصين. تعيين الكفاءات يجب أن يكون قائمًا على الجدارة والقدرة، وليس على الولاءات السياسية والمصالح الضيقة. التكنوقراط هم وحدهم القادرون على قيادة التحول الإداري والتنموي المطلوب، وتأخير هذا الإصلاح لن يكون إلا على حساب مستقبل الأجيال القادمة.
فإلى متى هذا التغافل؟
الحقوقي والمدون عبد الله ولد البشير