أجلس هذه الليلة في وادان، مدينةِ الحجرِ والذاكرة، وأقلبُ سجلَّ العمرِ والعقود، لا على سبيلِ الحنينِ وحده، بل استدعاءً للعِبرة
تتداعى إلى الذهن أسئلةُ الثقافةِ والتراث، وجدوى الحوار، ومآلاتِ الفساد، وصراعِ الديناصوراتِ السياسية، وقضايا تُدار بعقليةِ المشهد لا بعقلِ الدولة؛ من خطابِ النعمة، إلى جدلِ المأموريةِ الثالثة، إلى شعارِ تمكينِ الشباب، الذي يتآكل في الممارسة وإن ظلّ براقًا في الخطاب.
كلُّ ذلك ممزوجٌ بحرارةِ تجلّياتِ ملفِّ الإرثِ الإنساني، والدورِ المشبوهِ لحركة «أفلام»، والنظرةِ الانفصاليةِ لها، والبرنامجِ العنصريِّ لحركة «إيرا».
سيدي الرئيس،
على الرغم من كلِّ ما يُحسبُ لهذا المهرجان من محاسنَ شكلية، فإنه لا يبدو ملامسًا لجوهرِ انشغالاتِ السكانِ المحليين، أولئك الذين يحملون عبءَ الضيافة، ويقدّمون أعمارهم قبل أموالهم لخدمةِ الوافدين.
كثيرون ممن حضروا لا تربطهم بالتراث، ولا بالشعر، ولا بالمزاراتِ التاريخية، صلةٌ وجدانية؛ وإنما جاؤوا بدافعِ السياسةِ الخالصة، لتسجيلِ حضورٍ عابر، أقربَ إلى استعراضِ ولاءٍ منه إلى احتفاءٍ بالثقافة.
وغالبًا ما يُستكمَلُ المشهدُ بصورةٍ عبثية: وزارةٌ تستجدي موظفيها، وبعضَ العارضين والشعراء، في اليومِ الموالي للافتتاح، ليجلسوا على المنصّة، لا لشيءٍ إلا لملءِ شاشةِ العرض؛ بينما جمهورٌ متسمّر يراقبُ مشاهدَ مبهمة، وتقدّمًا مُتوهَّمًا، وأناسًا غارقين في نوستالجيا لا نهايةَ لها، ينتظرون نصيبهم المؤجَّل من قصعةِ الحضارة.
سيدي الرئيس،
كان الأجدرُ هذا العام أن تُصرَفَ هذه المليارات فيما يمسُّ حياةَ الناس مباشرة: طريقٌ يربطُ وادان بالعالم.
فتعبيدُ الطريق أولى من الضجيج، وأبقى من الهرج، وأصدقُ من الأبياتِ المُصفَّقة، ولبتوته المملّة، ومن مظاهرِ الاحتفال التي لا تترك أثرًا بعد انطفاءِ الأضواء. ولو كان لا بدّ من إنفاقها في بابِ الثقافة، لكان من الأجدى توزيعُها على الساكنة، وبخاصةِ الشباب، أو تنظيمُ مهرجانٍ في مكانٍ لا يفرض على الجميع مشقّةَ السفر.
لقد بلغ الشكلُ المهرجانيُّ للثقافة درجةً من الابتذال، جعلت العقلاء يقترحون العودةَ إلى «المواسم» الصوفية، وإلى الاحتفاء بثقافةِ المجتمع في صورتها الأصيلة: حفظِ القرآن، والحديث، والمديح، والمتون، وترسيخِ القيم، ومقاومةِ التفاهة، ونقيقِ الضفادع، وثقافةِ الشحاذةِ السياسية.
ومن جهةٍ أخرى، وباسمي كحقوقي، ورئيسٍ لهيئةِ حقوقِ الطفل والعملِ المدني، وكمواطنٍ خبر دهاليزَ الإدارة، فإنني أناشدُ فخامتكم ألا يمرَّ ملفُّ الأربعمائةِ مليارِ أوقية مرورَ الكرام.
فالحربُ على الفساد لا تُقاس ببلاغةِ الخطاب، ومنهجِ قُسِّ بنِ ساعدةَ الإيادي، بل بصرامةِ الفعل، وفروسيةِ المغاوير. لقد أنهك الفسادُ صبرَ الموريتانيين، حتى باتوا يتساءلون عن جدوى تضخّمِ المؤسساتِ القضائيةِ والرقابية، ما دام الفسادُ آمنًا مطمئنًّا في كنفِ الحمايةِ غيرِ المرئية.
وأحذّرُ، سيدي الرئيس، من الودِّ المتصنّع؛ فالمحبةُ حين تُدار سياسيًا تصبح أداةَ خداع، لا تعبيرَ وفاء. وكثيرٌ من المحيطين بكم لا يريدون بكم خيرًا، ولا منكم إلا تجاوزَ الملفاتِ الثقيلة، لا فتحَها.
ونصيحةً لوطنٍ يتغيّر، أرى ضرورةَ الاستثمارِ الجادّ في تكوينِ الطيارين العسكريين، حمايةً للحوزةِ الترابية، خاصةً مع تزايدِ اكتشافاتِ الذهب والنفط والغاز، وآخرِها ما أُعلن عنه في اكليب اندور.
سيدي الرئيس،
لم تعد الانتقائيةُ في ملفِّ الثقافةِ والتراث مقبولةً ولا مبرَّرة. فأقدمُ مقبرةٍ لمتونية، بشهاداتٍ علميةٍ وإدارية، قائمةٌ في أوجفت، ومنها تشكّلت حركةُ التاريخِ اللمتوني نحو مشارقِ البلاد ومغاربها.
ومع ذلك، لم يصل أوجفتَ قطارُ الاحتفاء، ولا قطارُ التعيينات، ولا حتى إشارةٌ سياسيةٌ عابرة. ويبدو أن هذا التهميش يُرضي بعضَ المنتفعين، ممن يفضّلون أن يرحلَ عهدُكم دون أن يُسجَّل فيه إنصافٌ لهذه المدينة، رغم ما لها من حضورٍ في تاريخِ آبائكم، وما لحَرَمِكم المصون من جذورٍ فيها.
هذه المدينة، سيدي الرئيس، بالكاد احتفظت باسمها في عهدكم، وما ذلك — في وجدانِ أهلها — إلا من فيضِ بركاتِ الصالحين.
في أوجفت، انطفأت الصراعاتُ الصغيرة، وغاب دورُ العُمد، وانكفأ النوابُ عن حملِ همومِ آدرار بآدرار عمومًا، حتى بات الجمودُ سياسةً غيرَ معلنة.
وإذا كانت مراجعةُ الدستور مطروحة، فإن مراجعةَ التمثيلِ البرلماني أولى؛ فمقاربةُ نوابِ آدرار فاشلةٌ في الجوهرِ والنتيجة.
أما العُمد في كبرياتِ المدن، فقد جاء كثيرٌ منهم عبر المالِ السياسي، خارجَ منطقِ البرامج والانتماء؛ مالٍ يشبه مالَ الدولة في شيءٍ واحد: أنه لم ينهض بحالِ الفقراء، ولم يغيّر واقعَ الهامش.
سيدي الرئيس،
لقد بدأت ملامحُ «الأسرة» تظهر في التعيينات، لا بمعناها الرمزيِّ الجامع، بل بحميميةِ المصاهرة، ووشائجِ القرابة، ودفءِ الحلقةِ الضيقة من خؤولةٍ وعمومة؛ كأننا لم نعد أمام دولةِ مؤسساتٍ خالصة، بل أمام ما يمكن تسميته بـ«الخيمةِ الحاكمة»، حيث تُدار السلطةُ بمنطقِ القرب، وتُوزَّع الفرصُ بميزانِ الأنساب، لا بميزانِ الكفاءة.
وقد أظهر بعضُ الممسكين بالخيوط هذا التحوّل بوضوح، حين تحوّل النفوذُ الإداري إلى مجالٍ لترسيخِ الخيمة، وتوسيعِ دائرتها، وإقصاءِ من لا يدخل في نسيجها الاجتماعي، ولو كان من أهلِ الكفاءةِ والتجربة، إلا أن يكون من التيارِ الممسك بزمامِ البلد، أو من صنوه المنافسِ له؛ لتصبح الدولةُ بين ركيزتين، تمتلكان التزكية، وتفرضان من الدَّنَس ما لم تفرضه عادٌ وثمود، دون أبسطِ إحساسٍ بالمسؤولية، ووخزِ الضمير.
سيدي الرئيس،
لماذا لا يجد شبابُ أوجفت موطئَ قدمٍ في التعيينات؟
هل يُطلب منهم صكُّ ولاءٍ قبلي؟
أم تزكيةٌ عائلية؟
أم مصاهرةٌ سياسية؟
أم انتظارُ الرضا من بقايا منظوماتٍ تجاوزها الزمن؟
إن لوائحَ التعيينات، في صيغتها الحالية، مجحفة. ولسنا ضد تعيينِ هذا أو ذاك حين يكون لذلك مقتضىً موضوعي، لكن العدالةَ تقتضي أن تُفتح الأبوابُ للكفاءاتِ الحقيقية، لا أن تُغلَق باسمِ القربِ الاجتماعي.
وقد كان من الإنصاف الالتفاتُ إلى أسماءٍ معروفةٍ بالكفاءةِ والعلمِ والتجربة، لكنها دُفعت إلى الهامش بلا سببٍ معلن.
سيدي الرئيس،
إن مشروعَ تجديدِ الطبقةِ السياسية، في فكرته الأصلية، مشروعٌ نبيل، لكنه تعثّر حين سقط في فخِّ القبيلة، والعشيرة، والمصاهرة، وجماعاتِ الضغط، التي تتنازع على جسدِ الدولة كما تتنازع الغربانُ الجِيَف. وهذا المسار، إن استمر، لن يورث إلا إحباطًا عميقًا، وسيحوّل الشبابَ من رصيدِ أملٍ إلى قنبلةٍ اجتماعيةٍ موقوتة.
لماذا، سيدي الرئيس، لم تُعيّنوا الدكتور محمد لمين حلس على رأس «التآزر»، بدل سيدي ولد ملاي الزين، حليفه في العهد؟ ألأن سيدي أوثقُ شهادة، أو أكثرُ قربى؟
ولماذا تم طردُ الدكتور محمد لمين ولد أحمد سيفر من مكتبه، في إقالةٍ ركيكة، دون أن يستفيد من هذه القرابةِ العنصرية؟ وتمرّ سنواتٌ دون أن يُعادَ له الاعتبار.
ولماذا لم يتم إنصافُ الدكتور دداهي ولد الهادي بعد المساندةِ حاميةِ الوطيس لكم في الحملة؟ وكيف سيثق فيكم شبابُ أوجفت بعد أن كانت مكافأةُ ذلك الشاب إخراجَه من دهاليزِ الإدارة على يد وزيرٍ جهويٍّ عنصري، وكوناني هو الآخر؟
ولماذا لا يتم تعيينُ الدكتور سيد ولد الحمد، أو سيد محمد ولد ببكر، وهم أصحابُ كفاءةٍ وخبرة؟ وهل هم بحاجةٍ إلى عِرقٍ معيّن؟
اللهم إني قد بلّغت، فاشهد.








