بأي معنى نقول ذلك؟
وعلى أي نحوٍ نحمله؟
وعلى أي أساس نبنيه؟
وهل الاستقلال، يحتاج الاستقلال؟
أسئلة تثيرها المناسبة، ولا أعرف إن كنت قادرا على إبلاغها، حق معناها.. وأحملها على شرحها المناسب.. وأرسي بها على جبال شم راسيات، لا تتأثر بعوامل التعرية، مهما كانت سرعتها وقوتها، ومصدرها واتجاهها!
منذ خمس وستين سنة، ونحن نخلد ذكرى عيد الاستقلال الوطني كل سنة، ولم يتساءل أي منا طيلة هذه الفترة، عن معنى الاستقلال الذي نريده لشعبنا وأمتنا، لأننا فهمنا منذ البداية، أن الاستقلال - وبغض النظر، عن ما إذا كان منحة من الاستعمار، أم هو ثمرة لكفاح خلف مئات الشهداء، كما نقر ذلك - هو مجرد حدث تاريخي، قد مضى وانقضى، ويكفي من تخليده تحيين ذكراه كل سنة، وعلمنا أطفالنا لأن يفهموه كَملهات، ضَمَدت جراح مأساة، كانت قسوتها جلد مُحتل بسوط الإهانة لكبرياء قوم أعزهم الله بالإسلام، محتل لا يعرف الرحمة، خسيس القيم .
والأدهى والأمر من ذلك أننا أدخلنا في عقول أطفالنا أن الاستقلال، هو مجرد علامة حرية، من هيمنة انتهت ورحل أهلها، وما علينا إلا استحضار لحظة انتهاء تلك الهيمنة، وأن عليهم أن يرقصوا كل مرة تصادفهم ذكراها، دون أن يثيروا أي سؤال متعلق بالمعني الجوهري للمناسبة، كمناسبة للتفرغ لفعل الأهم، والتدبير فيه، وكأساس لتدقيق معني الاستقلال؛ كلحظة تكتمل فيها أسس الكرامة، الكرامة، التي تعني اكتمال الشخصية الحضارية للأمة في أسس مقوماتها الأساسية "العلم والاقتصاد".
بهذا المعني، يمكن أن نتحدث عن تخليد ذكرى استقلال في ظل استقلال، وهو الذي يحصل عندما تمتلك الدولة والأمة على الأصح، زمام أمرها في تدبير شانها، وتكون قادرة على تحقيق رفاه شعبها، في أساسيات عيشه الكريم، دون عبور حدودها، إلى ما قد ينتقص من سيادتها، عند ما يصاحبه ارتهان ما.
وعلى هذا النحو، نحمل المعني الذي قصدناه، لأننا نجد في الاستقلال الحالي (تخليد الذكرى)، الحضور الفعلي والوعي باللحظة، عند أمة استجمعت قواها لتنهض وتنفض الغبار عن رأسها، وتشرع في توفير أسس ومستلزمات الحضور التاريخي، وتقطع أشواطا بارزة، في تدبير شأنها دون انتظار سند ما، قد يضاعف العبء على أجيالها، أو يرهنهم بدين ثقيل يَطال الكرامة.
وما كان ليحصل ذلك، لو أن الأمة ظلت تساس برأس مصاب بعلل الخوف والتردد وضعف التفكير وقلة الحيلة، ولأن الرأس الآن سليم من تلك الآفات، فقد سلم جسد الأمة من التعفن، حالها كحال السمكة، التي لا تتعفن إلا من رأسها، ولأنها تدار بذلك الرأس السليم، ها هي تباشر الفعل الذي يجعل من استقلالها، استقلالا كامل الأركان، بالمعني التاريخي الحضاري.
ولأن الرعية على قلب الأمير، والأمير رجل تفاعلي مع شعبه، مُكاشف له، بكل صغيرة وكبيرة، يحاججه، ويناقشه في كيفية بناء الدولة والنهوض بالمجتمع (المنهج التشاركي)، خطوة خطوة.. دون تعجل غير مدروس، ودون تباطؤ مُخل، مُصابرا، بقدر ما يكون الصبر أداة للإصلاح، وموصلا إلى الهدف المرسوم.
تُخلد ذكرى الاستقلال، هذه السنة، في ظل استقلال، يقترب من تحقيق وبناء الدولة التي يحس المواطن، أنها الحاضنة الوحيدة له، والراعي الأول لشؤونه وتدبير أمنه النفسي والاجتماعي والاقتصادي...
وعلى هذا الأساس نجد مشروعية القول، إن الاستقلال في ذكراه الحالية، يتم تخليده في ظل استقلال، بمعني امتلاك الدولة لزمام أمرها، وتدبير رغد عيش مواطنيها، وأكثر من ذلك امتلاك - وربما الأهم - القدرة على حماية نفسها، وتأمين أرضها، وعرضها، والمصالحة مع ذاتها، في الكشف عن مواطن الضعف والخلل فيها، وتدخل في سجال تاريخي يُحلحل، بقوة، وبجرأة لافتة، كل مكامن الخلل المعرقلة للبناء والنهوض، وفي مقدمة ذلك الخللِ المعرقل، الخلل الأكبر: التسَيُبُ والفساد، وغيرهما من مفاسد القيم.
وهنا يتبدى أن الاستقلال، يحتاج بالفعل إلى استقلال، لكي يكون كاملا، ولكي يكون كاملا، كان "التعهد" و"الطموح" مقاربتان ناجعتان لضمان بلوغه، وتحقيق استقلال كامل، يقطف البلد الآن ثمار تصميم الإرادة الصانعة له، وتظهر كل المؤشرات أنه "بالغ أمره" خلال هذه المأمورية أو هو بالغ أكبر محطاته الأساسية، استنادا إلى حجم المنجزات في السنوات الستة المنصرمة، وحجم المقرر قيد التنفيذ في المتبقي من عهدة صاحب الفخامة محمد ولد الشيخ الغزواني، والتي جعلت الذكرى الخامسة والستين للاستقلال الوطني، ذكرى تُخلد في ظل استقلال، يوشك أن تحقق فيه الكرامة الضرورية لأمة، عانت لعقود من نقصانها.








