الحسين عالي امحيمد إداري مدني من الطراز الأول، خدم الدولة الموريتانية -و هو لم يتجاوز بعدُ سن الخامسة عشر-خلال سنوات النضال السياسي الممهدة للاستقلال، و عمل بعد ذلك معلما للغة الفرنسية ثم ما فتئ أن عُينَ رئيسا لبعض المراكز الإدارية، ثم حاكما لبعض المقاطعات، حيث قاده العمل إلى كل من: (شوم -ازويرات-انواذيبو-تيشيت-روصو-كرو-كيفة-كنكوصه-الطينطان-باسكنو-بومديد).و خلال عمله بهذه المقاطعات و المراكز كان يعي حجم المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتقه ،فشرع في حفر الكثير من الآبار ، و نجح بحنكته و صرامته المعهودة في تسوية النزاعات التي كانت كثيرا ما يشتعل فتيلها و يضطرم أُوارُها بين بعض المجموعات القبيلة المتجاورة. كما ظل يرفض طيلة فترة خدمته قبول الهدايا و الهبات و العطايا التي تقدم للمسؤولين و الحكام ليبقى على مسافة واحدة من جميع الأطراف، و لكي لا يشعر و لو للحظة أنه صار مدينا لطرف بشيئ يمنعه من ممارسة سلطاته و صلاحياته على الوجه الأكمل.
تفرغ في أواخر سنوات الخدمة للعمل السياسي في حزب الشعب الذي شغل منصب أمينه العام على مستوى ولاية آدرار بين سنتي 76 و 1978، ليشغل بعد ذلك وظائف مختلفة في أطار، ثم رئيس المفوضية الجهوية للأمن الغذائي و رئيس مجلس إدارة المستشفي الجهوي بأطار....إلخ.
و قد عُرف خلال فترة خدمته بالصرامة المُطعمة بالرفق واللين، كما عرف منذ طفولته المهنية بالدقة و التنظيم، و التحلي بروح الوطنية المفعمة بالنزاهة و الاستقامة.
و من المواقف الدالة على وطنيته الحقة و صرامته الشديدة في الدفاع عن السيادة الوطنية : قصة معركته الشهيرة مع الضابط الفرنسي أيام كان رئيسا لمركز شوم مُقيما في (عگي) سنة 1963.
و قد تمت الإشارة إلى هذه القصة في مذكرات الراحل المختار ولد داداه.
و قبل أن أروي لكم تفاصيل المعركة بودي أن أسجل موقفا جليلا للأب المؤسس تحدث عنه في مذكراته يتلخص في شدة تبرمه و انزعاجه الذي عبر عنه في أكثر من موقف حيال نظرة الفرنسيين (كمستعمِر سابق) تجاه قضايا الأمس القريب (فترة الاحتلال) حيث يقول إن أُبوتهم للمستعمرات حلت محل الاستعمار الحقيقي و لم يستطيعوا التخلص من هذه النظرة بسهولة فكانوا ينظرون إلى الدول المستقلة الجديدة التي ظهرت بعد الامبراطورية الاستعمارية على اعتبار أنها دول غير راشدة..و لم يكن تغيير عقليات (الأسياد) القدامى تجاه هذه المستعمرات السابقة بالأمر الهين!
معركة السيادة بين الحاكم الموريتاني : الحسين ولد امحيمد و الضابط الفرنسيRichard قائد في الجيش الفرنسي آنذاك (عگي 1963).
في شهر يناير 1963 كان الفرنسيون لا يزالون يحزمون أمتعتهم و يبيعون ممتلكاتهم استعدادا للمغادرة، و كان الضابط الفرنسي ريتشارد يقود قطعانا كبيرة من الإبل رفقة مجموعة من حراسه و رعاته(گوميات) باتجاه بئر عند عگي قريبا من بلدة شوم الحالية، و عند اقترابه من البئر تقدم بقطيع واحد و ترك بقية القطعان خلفه بعيدا في انتظار الإشارة إلى رعاتها بورود البئر . و لما وصل وجد أمامه موريتانيين عند البئر يسقون فسأل عن الحاكم ليستأذنه في سقاية القطيع المرافق فأذن له الحسين في أن يسقي قطيعه بسرعة و ينصرف ليترك الفرصة للمواطنين و عليه أن لا يتأخر كثيرا. و لكن الضابط الفرنسي بعد حصوله على الإذن و انصراف الحاكم المدني عنه بعث أحد رعاته ليستقدم بقية القطعان المرابطة غير بعيد، و ضُرِبَتْ له خيمة ليتفيأ ظلها فجلس تحتها يراقب الوضع عن كثب و يحتسي كؤوس الشاي و يأكل القديد (التيشطار)، بينما لم يكن أصحاب الحظوة من مرافقيه يطمحون بأكثر من الحصول على لقيمات من العصيدة (بلغمان)فحسب، و قليل من الشاي (ربما تعاقب ثلاثتهم على شرب كأس واحدة: الردوف).
و بعد أن ظهرت المكيدة للمواطنين الذين يرابطون غير بعيد بإبلهم في انتظار صدور إبل ( النصراني)..طال عليهم الوقت و دب فيهم التذمر فاشتكوا إلى الحاكم الذي حضر بنفسه عند البئر و طرد رعاة إبل الضابط الفرنسي و أمر الموريتانيين بالورود!
مُعربا عن شدة غضبه من هذه المكيدة التي أوشكت أن تتسبب في نضوب ماء البئر قبل أن يسقي المواطنون قطعانهم.
فأُبلغ الضابط الفرنسي بالأمر فحضر يسأل زهوا و استعلاء : أين من يدعي أنه الحاكم الفعلي هنا؟ فأجابه الحسين: ها أنا ذا، و ليس الأمر ادعاءً يا من يدعي أنه مازال يتحكم في ارضنا!
فاستشاط الفرنسي غضبا و حنقا و قال للحاكم: تعال معي إلى خيمتي باعتبارها خيمة السلطة (الرسمية) لنحل هذا الموضوع. فما كان من الحسين إلا أن رد عليه بالقول: أنا هنا هو الحاكم الفعلي، و أمثل السلطة الرسمية ، و لن تحل القضية بيننا إلا في هذا المكان و حالا!!
فقال الفرنسي : ألا تعلم أن أكثر من 400 من الآبار و نقاط المياه في هذه البلاد قد تم حفرها من طرف الدولة الفرنسية؟!
فقال الحسين: أولا تعلم أنت أن موريتانيا قد حفرت مئات الآبار للاستعمار وردمته فيها؟!!
فتضاعف غضب (النصراني) و تلفظ بكلمات نابية إهانة للسلطة الموريتانية و لممثلها الحاكم، فما كان من الأخير إلا أن اقترب من الفرنسي ضربه بلكمة قوية بقبضة يده هشمت أنفه و أصابته بالرعاف، ثم قام يخنقه بذراعه على مرآى من الفريقين!
و عندها أمسك قوم (النصراني) گوميات بنادقهم و صوبوها تجاه الحاكم، فرد أعضاء فرقة الحرس المرافقة للحاكم بالمثل و صوبوا بنادقهم باتجاه ( گوميات) و كادت أن تحدث معركة شرسة لولا تدخل أحد عناصر الحرس طالبا من الفريقين عدم التدخل حقنا للدماء و ترك الرجلين يتعاركان حتى يتغلب أحدهما على الآخر!
و بعد أن كاد الضابط الفرنسي يلفظ أنفاسه تدخل أحد الحراس متوسلا أمام الحاكم طالبا أن يخلي سبيل الفرنسي فقد أوشك على الهلاك.
فتركه و رماه بعيدا ..و لما استعاد توازنه بعد لحظات وقف متوعدا الحاكم بالويل و الثبور و عواقب الأمور مردفا أنه سيكتب فيه تقريرا إلى السلطة الفرنسية في السينغال.
بعد انتهاء المعركة لصالح الحاكم المدني الموريتاني كتب تقريرا مفصلا و بعثه إلى السلطات الإدارية، كما كتب الضابط الفرنسي من جانبه تقريرا و أرسله إلى السلطات الفرنسية.
و بعد توصل السلطات الفرنسية في سنلوي بالتقرير ردت بتوبيخ الضابط الفرنسي و العزم على عزله طالبة منه الدفع باتجاه المصالحة مع الطرف الآخر قبل أن تتطور الأمور.
فتدخلت بعض الشخصيات الوازنة على المستوى الجهوي و دفعت باتجاه الصلح محاولة الضغط على الحسين لقبول الصلح بعد أن بعثت السلطة الفرنسية بهدية لأهل امحيمد في أطار تمثلت في ( بعيرين و بندقيتين من نوع 36 و بعض الذخيرة الحية)..لكن الحسين أصر على موقفه الرافض لأي صلح موضحا أن المشكلة ليست بين أهل امحيمد و الضابط الفرنسي و إنما هي مشكلة بين دولتين كلاهما ذات سيادة هما الدولة الموريتانية و الدولة الفرنسية. و على هذا الأساس يجب أن تُحل القضية.
تطورت الأمور سريعا حتى بلغت وزير الداخلية حينها أحمد ولد محمد صالح حيث أبلغ بدوره الرئيس المختار ولد داداه الذي كان صارما في موقفه من القضية ، و كان رأيه مطابقا لرأي الحاكم في كون القضية قضية بين دولتين و ليست قضية شخصية.
عندها قررت الحكومة مكافأة هذا الحاكم بإرسال هدايا عينية إليه تفوق ما قدمه الفرنسيون من قبل، ثم اقتراح تخييره في التحويل إلى أي مكان يرغب بالعمل فيه. و تطبيقا لهذه المكافأة قرر وزير الداخلية تحويل الحسين حاكما مركزيا لانواذيبو ( آخر قلاع الفرنسيين وقتذاك) نكاية بهم لمدة سنة ، حتى يراقب تصرفاتهم و يتحكم في تحضيراتهم للجلاء، ثم يتم تحويله بعد ذلك إلى أي مكان يختاره.
هكذا كانت السلطة تعامل المخلصين و تكرمهم و تشجعهم.
رحم الله ذلك الزمان و أهله.
ألا يستحق هذا النوع من الشخصيات الوطنية النادرة - في نظركم- التكريم و التوشيح في ذكرى الاستقلال رمز السيادة و الوطنية،و لو من الناحية الرمزية على الأقل؟!
الحسين ولد امحيمد، يعيش الآن في مدينة أطار منصرفا إلى عبادة ربه .و هو بالإضافة إلى ذلك وجيه من أعيان الولاية و زعيم تقليدي بارز في آدرار، شاهد على وقائع حقبة الاستقلال و السنوات الأولى لتأسيس الدولة الموريتانية. وكان يلقبونه اقرانه بالقناص حيث كان لايشق له غبار في الرماية التقليدية وكانت هوايته المفضلة.